روائع مختارة | واحة الأسرة | قضايا ومشكلات أسرية | الفجوة بين الآباء والأبناء (1)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > واحة الأسرة > قضايا ومشكلات أسرية > الفجوة بين الآباء والأبناء (1)


  الفجوة بين الآباء والأبناء (1)
     عدد مرات المشاهدة: 5181        عدد مرات الإرسال: 0

يقول ابن القيم رحمه الله: وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم[1].

 

كثرُ الجدل في السنوات الأخيرة حول وجود فجوة بين الآباء والأبناء، وأن الآباء يفكرون بطريقة ما، والأبناء يفكرون بطريقة مغايرةٍ تمامًا، ولعلك تسمع في هذا الصدد عباراتٍ تقول إن الآباء يفكرون بطريقة قديمة، وإن الأبناء يفكرون بطريقة جديدة، الآباء في خندق التخلف والرجعية، والأبناء في صف التحضر والتقدمية، الآباء أكثر خبرة.. نعم، ولكنهم أقل ثقافةً وعلمًا من الأبناء، الآباء يفرضون آراءهم والأبناء ما لهم من محيص. ثم انعكس ذلك على وسائل الإعلام، حتى ظهرت أفلامٌ ومسلسلاتٌ تناقش هذه القضية على طريقتهم وكان أشهرها مسلسلُ: لن أعيش في جلباب أبي. والاسم يعبر عن المضمون.

نعمة التواصل بين الأجداد والآباء والأبناء:

من خصائص الإنسان أنه كائن اجتماعي، لا يَحْيا وحده، ولقد علمتَ الإنسان يَحْيَا ويعيشُ في حيثُ تكون التجمعات البشرية، ومن النعم التي يمتن اللهُ بها على بني البشر أن قرر فيهم هذا التواصل، حتى على صعيد الأسرة الواحدة، فقال تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72] ، فالأصل هو التواصل بين الأجيال الثلاثة: الأجداد والآباء والأحفاد.

وهذه النعمة التي يمتن اللهُ بها، ويجعلها سنةً في البيوت، أضفى عليها السكن والمودة والرحمة، نعمةً فوق ونعمة، فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].

وأحسب أن معاني السكن النفسي، والمودة والرحمة، ليست معاني مقتصرةً على حدود المرء وزوجه، بل عامة وشاملة كلَّ الأجيال من أجداد وآباء وأحفاد.

وشعور المودة ليس شعورًا مقصورًا على الحياة الأسرية بل يمتد إلى خارج البيت.. بل إلى الخصوم أحيانًا: قال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الممتحنة: 7].

ولقد ضرب الله مثلًا غاية في الروعة للتواصل الـمُعطَّل بين شخصين، هما مَثلُ الخادم وسيده، إذ الأخير يأمرْ، والثاني لا يسمع، فلا تواصل بينهما، ولا تعايش، فكان المثال صارخًا جدًا، فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]

وضرب اللهُ مثلًا لصورة التواصل الطبيعية بين الآباء والأبناء في غير ما موضع في القرآن[2]، ومن أمثلة ذلك:

أولًا: مثال التواصل بين لقمان وابنه:

وكان الدرسُ الأول الذي يُلقيه الأبُ على مسامع الابن في توحيد الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

ثم في عظيم قدرة الله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].

ثم في الفرائض والواجبات: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

ثم في الآداب والسلوك: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18- 19].

ثانيًا: مثال التواصل بين يعقوب وولده:

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] فهو يجمع الأولادَ من حوله، يوصيهم وصيته الأخيرة.

قال صاحب الظلال: إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير.. ميت يحتضر. فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر، يسجل فيه كل التفصيلات؟.. إنها العقيدة.. هي التركة. وهي الذخر. وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته[3].

ثالثًا: مثال التواصل بين إبراهيم وولده:

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] فهو يشرك ولده في أمر دعوته.

ويتعاونان حتى في الدعاء العظيم، وما أكرمه من دعاء! {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128] أي: ربنا، وصيّرنا مُسْلِمَيْنِ لك، طائعين لك، منقَادَين لك، واجعل أولادنا كذلك.. أمةً مسلمةً لك، وأسرةً متحدةً فيك، تسير على مِلتك.. ملةِ الإسلام. وفقهنا في شرعتنا، وعَرفْنا مُتَعَبَّداتِنا، وأرنا مناسكنا ومذابحنا، نتقرب فيها إليك بالنسك والنحر[4]، وتب علينا من كل ذنب، إنك أنت التواب الرحيم.

رابعًا: مثال تواصل إبراهيمَ مع أبيه، لنصحه وإرشاده:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 41- 47]، وهذا يدخل في باب أدب الابن مع أبيه، حينما يتحقق الفارق العقائدي بينهما، فكان سلوك الابن مثالًا عاليًا في الرفق والبر.

خامسًا: التواصل بين داود وسليمان:

{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، فهي الشراكة بين الأب والابن في الحُكم والقضاء بين الناس، ويُؤخذ من ذلك إشراك الأبُ ولده في أعمال البر.

وأن يتعهد الوالدُ ولده، حتى يشارك في العمل الاجتماعي عن فهمٍ وعلم: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79].

سادسًا: أمثلةٌ للجانب السلبي:

أ) تواصلُ الأب مع ولدٍ دون آخر، حتى ظهر الحسدُ بين الأبناء، وحقدوا على الذي فضَّله الأبُ، كما في قصة يوسف عليه السلام وأخوته: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 8- 9] فحدث ما حدث، ودبروا له ما دبروا.

ب) الظلم في الهبات والأعطيات، وهو من أهم الأسباب التي تفسد العلاقة بين الآباء والأبناء. فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي، فَقَالَتْ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي، وَأَنَا غُلامٌ فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ، لِهَذَا قَالَ: «أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «لا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ»[5].

وعنه صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم أنه قال: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ»[6].

وقال أيضًا: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ»[7]، ولفظ الولد لغةً وشرعًا ينسحب على الذكر والأنثى، فالابن ولد، والبنت ولد، وهما ولدان، وهم جميعًا ذكورًا وإناثًا أولادٌ.

توصية عملية:

هناك أمثلة كثيرة للتواصل بين الآباء والأبناء في السنة النبوية المشرفة، خاصة في مجتمع الصحابة، فحبذا الرجوع إلى تلك الأمثلة، خذ مثلًا: أسرة عمرو بن الجموح رضي الله عنه.

----------------------

[1] تحفة المودود بأحكام المولود (229).

[2] سنضيف إليه مثالًا من السنة النبوية.

[3] في ظلال القرآن، لسيد قطب (1 / 90).

[4] قال الفراء: المَنْسَكُ المَنْسِكُ في كلام العرب الموضع المعتاد الذي تعتاده ويقال إِنَّ لفلان مَنْسِكًا يعتاده في خير كان أَو غيره وبه سميت المَناسِكُ [لسان العرب، باب نسك].

[5] أخرجه البخاري (2650).

[6] أورده البخاري معلقًا في كتاب الهبة، باب الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ، (9 / 338)، وحسنه ابن حجر، وهو ضعيف عن الألباني بهذا اللفظ، وإنما اللفظ الصحيح لا يذكر فيه العطية كما في الصحيحين.

[7] أخرجه البخاري (2398).

الكاتب: محمد مسعد ياقوت.

المصدر: موقع رسالة الإسلام.